المنطقة الصناعية في البيادر — فوضى التخطيط وصدى الإهمال
بقلم: طيّار متقاعد زار مدن العالم… وعاد ليرى مدينته تُدار بلا بوصلة
في مدن كثيرة رأيتُ التخطيط قبل البناء، والرؤية قبل الخرائط، والمستقبل قبل الأرصفة.
أما هنا، في عمّان، فنبدو كأننا وصلنا مبكرين إلى زمن متأخر؛ حاضر يشيخ بلا ماضٍ ناضج، ومستقبل ينتظر إدارة لم تولد بعد.
من بين كل الأمكنة، تبرز المنطقة الصناعية في البيادر كعتبة مؤلمة في الوعي الحضري، كأنها امتحانٌ أخفق فيه السؤال قبل أن يُخفق الجواب.
ليست البيادر حيًا مرهقًا، بل عتاب جغرافي يُلقيه المكان على من يديره.
هي ليست فوضى عابرة، بل أثرٌ حيّ لفكرة متعبة عن المدينة؛ فكرة تجرّ نفسها خلف العربات والشاحنات والأسئلة المؤجلة، وتهمس: من يقود من؟
هل نحن من يدير المكان… أم المكان من يدير عجزنا؟
في البيادر، لا يواجهك العمران بقدر ما تواجهك الفكرة التي تقف خلفه.
فكرة تبدو وكأنها نسيت أن المدن تُبنى بالعقل قبل الأسمنت، وأن التخطيط ليس رد فعل، بل فعل؛ ليس مطاردة اليوم، بل صناعة الغد. الأمانة تبدو كمن يمسك المدينة من أطرافها المرتعشة، بينما يترك مركز الرؤية ينهار في صمت ثقيل.
عقل حضري فقد شجاعة السؤال قبل أن يفقد أدوات الجواب، فأصبح المستقبل احتمالًا يتيمًا، والرؤية مسودة علّقَت في الهواء.
البيادر: مدينة بلا خطة، وحاضر بلا غد
-أرصفة إن وُجدت لا تعرف من خُصصت لهم
-شوارع ضيقة بلا ذاكرة تصميم ولا كرامة مرور
-حركة طرق تشبه الغابات لا المدن
-ورش متداخلة تختنق فوق بعضها كأنها تتنفس بالمصادفة
-غياب تام لخيال اقتصادي أو بيئي يليق بالمستقبل
ليست هذه فوضى عشوائية؛ إنها فوضى اكتسبت صفة «المعتاد»، وكأن العجز أصبح نظامًا مقبولًا.
الأمانة تُحسن مطاردة التفاصيل، لكن من يطارد فشل الرؤية؟
تُجيد ضبط لوحة على رصيف، لكن من يُصلح هندسة الغد؟
أحياء أخرى… والمشكلة ذاتها
البيادر مثال… لا استثناء.
صور مشابهة تتكرر في أحياء أخرى:
-المحطة… انتظارٌ عمره عقدان
-رأس العين… ذاكرة بلا مشروع إحياء
-ماركا الصناعية… ازدحام يختنق بالصدفة
-سحاب… صناعة تبحث عن مدينة لتسكنها
-المقابلين والحرية… توسع يمشي أمام تخطيط لا يلحق به
القضية ليست مكانًا، بل طريقة تفكير.
الأمانة لا تُخطّط لعشرين عامًا… بل تحاول النجاة من سنة واحدة.
أنا طيّار متقاعد.
حلّقت فوق مدن فقيرة لكنها غنية بالعقل.
وزرت مدنًا غنية لكنها مفلسة التخطيط.
لكن ما يوجعني في عمّان ليس الفقر ولا القُبح… بل ضياع الفكرة التي تصنع المدينة.
-مدن آسيوية تخطّط لعام 2050
-مدن أوروبية أعادت خلق مناطق صناعية وجعلتها محركات اقتصاد
-مدن خليجية لا ترسم شارعًا إلا ضمن مستقبل مدينة
أما نحن، فما زلنا نختلف:
هل نحذف دوارًا أم نضيف إشارة؟
هذه أسئلة ورشة صيانة… لا أسئلة عاصمة.
خاتمة: ما يشيخ ليس المكان… بل التفكير
قد يقول أحدهم: لماذا كل هذا النقد؟
والجواب بسيط:
لأن البيادر مرآة… وإن رفضنا النظر فيها فلن تتغير الوجوه.
رأيت المدن من السماء، وتعلمت أن الخراب لا يبدأ من الشوارع… بل من العقول التي ترسمها.
المدن لا تنهار حين يشيخ عمرانها، بل حين يشيخ الفكر الذي يديرها.
كابتن أسامة شقمان